بيروت اليوم

عاد الى وطنه المنكوب ليكون سنداً لهن، فرحل برصاصات الحقد في بلدته الجنوبية…وحيد أهله يسلم الروح وييتم أطفاله الأربعة

“يغمره الحنين عاد إلى أرض الوطن…. إلى بلدته الجنوبية، إلى منزل عائلته… إلى حضن أخواته وزوجته أم أطفاله الأربعة… عاد إليهن ليكون معهن ويذود عنهن نوائب الدهر وتقلباته… ففي ذلك القلب الشاب، لا يتدفق الدم القاني في وريد إلا لأجلهم وما في البال المثقل بهموم العمل ومشاكله من جميل إلا صورتهم لحظة اللقاء… عاد وتحدى جميع الظروف القاهرة حتى تحداه القدر وتحدى جميع محبيه وأغمد في قلوبهم خنجر الوداع القاسي بأن كتب له، برصاصات الغدر الثلاثة في رأسه، نهاية حزينة… هكذا رحل الشاب الخلوق “علي خير الله سعيد” بعد ساعات مريرة خبر فيها آلاماً لم تبلسمها صلوات ودعوات لهجت بها المهج والأفئدة… فهكذا هم الطيبون… يرحلون على عجل عن دنيا تدنست بأتباع الشيطان ممن رانت على قلوبهم آيات الحقد والأذى، فتراهم تطفق أرواحهم سعياً إلى جنان العزيز الجبار… هناك حيث لا ظلم ولا كره يلوث مضي الأيام….

عصر الأربعاء، ضجت مواقع التواصل الإجتماعي بصور الشاب “علي” ودعوات له بالشفاء العاجل… فهو الذي نقل على وجه السرعة إلى العناية الفائقة ليكون بين يدي الرحمن وتحت عناية أطباء حاولوا قصارى جهدهم لإنقاذ حياته بعدما لاحقه مجرمون إلى مكان رزقه في مسلخ الدجاج وأطلقوا عليه وابلاً من الرصاص استقرت ثلاثة منهم في مواضع قاتلة في رأسه، ليسلم الروح بعد أقل من 48 ساعة.

حل الخبر صاعقاً على بلدته يحمر في النبطية، وفق ما أفاد الزميل “علي سعيد”. فهو الشاب المرح الخلوق و”وحيد عائلته على خمس شقيقات”. سافر إلى العراق ليؤسس لنفسه عملاً ينتج منه الرزق الحلال ليمد عائلته في لبنان به. ولم تنقطع “يده البيضاء” مذاك الحين عن أبناء بلدته أو عن أبناء الجالية اللبنانية في العراق. فقد كان مشهوداً له، وكما أفاد الكثير من أبناء الجالية للزميل سعيد، بـ”حشكته” على اللبنانيين، لا يتوانى عن دعمهم وتقديم يد العون لهم ولعائلاتهم في لبنان. فكان “علي” بحق وطناً لهم في غربتهم، رغم ما اثقل كاهله من هموم الغربة هو أيضاً.

ولكن بعد وفاة والده، شعر “علي” بحاجة لعودته إلى لبنان…. ليكون سنداً لعائلته بعد رحيل “كبير العائلة”…. وضب في حقيبته دعوات المغتربين اللبنانيين ومحبتهم ومحبة أهل العراق وعاد الى أحضان عائلته، على وعد عدم الانقطاع…. وعصفت في الوطن المنكوب رياح المآسي من شماله الى جنوبه، ولكن كل ذلك لم يقوَ على “ثني” البسمة على ثغره، فكان أب الطفلين والطفلتين، مثالاً على الرجل الجنوبي المتحدي لويلات الدهر…

ولعل ذلك ما “أغرى” المجرمين…. خططوا لجريمتهم الشنيعة، ودون أي رحمة أو شفقة، لاحقوه إلى محله في كفررمان…. رجحت التحقيقات الأولية أن يكون المتهمون ثلاثة شبان من التابعية السورية وأن الجريمة تمت بدافع السرقة، وأن عناصر من مفرزة النبطية في قوى الأمن الداخلي سرعان ما ألقوا القبض على الجناة وأحالوهم إلى القضاء المختص. وسواء توصلت التحقيقات إلى كشف خيوط وتفاصيل الجريمة والإعلان عنها أم لا، فإن الشاب “علي” قد مضى في رحلة اللاعودة إلى بلاد أنهكها إجرام القيمين والمسؤولين عن حفظ أمانها الأمني أو السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي أو الإنساني حتى….

وفقاً لآخر الدراسات التي نشرتها “الدولية للمعلومات” مقارنة الأشهر العشر الأولى من العام 2021 بالفترة نفسها من العام 2019، ارتفعت معدلات الجريمة في لبنان بشكل مخيف، حيث سجل ارتفاع جرائم السرقة بنسبة 265% (من 1314 سرقة الى 4804)، والقتل 101% (من 89 جريمة قتل الى 179)، نظراً لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيه خصوصاً، ما ينعكس تلقائياً على تدهور الأوضاع الأمنية أيضاً. كل هذه الأرقام لا تقيس حتى الساعة المعيار الأهم: “قتل الرحمة” في قلوب الناس…. قتل الرحمة في قلوب زعماء سياسيين عاثوا في البلاد الفساد، ولعل جريمتهم الأكبر كانت بقتل المزيد من الرحمة في قلب المقيمين على أرضه… فأي رحمة هي تلك التي تسمح لـ”قلب” أن يستل مسدسه ويقتل شاباً ويتم 4 أطفال؟ أن يرفع الدعم عن الدواء ويقتل ملايين المرضى بشكل أسرع، يرفع الدعم عن غذاء الأطفال ويقتل حقهم في النمو والحلم بغد أفضل، يرفع الدعم عن ما يدفئ قلوب العجز فيميتهم برداً؟ يرفع كل علامات الإنسانية حتى يتغول الشعب ويتحول وحشاً يفترس أخاه الإنسان بحجة أن “الجوع كافر” بينما قلوبنا هي التي كفرت بكل رحمة، وبات الكثير منا ينتظر “نيزك الرحمة” أن ينقذ ما تبقى من أمل لهذه البلاد…

المصدر : عبير محفوظ