بيروت اليوم

الشاب ‘ملحم’ (34 سنة) |ودع أطفاله، وأكبرهم ابن 8 سنوات، ومضى لعمله المتعب في شوارع بيروت، ليعود شهيداً بعد الحادث المشؤوم

المصدر : عبير محفوظ

“في وطن النجوم”، لا يدري المرء كيف سيقتل… فحياتك في لبنان هي رهن الفساد والمفدسين…. قد يقتلك حجر تساقط من مبنى يتهاوى، أو وجبة طعام أردت لها أن تسد رمق جوعك أو كوب مياه ملوث أردت منه ارواء عطشك…. قد تقتلك رصاصة طائشة أطلقت فرحاً أو حزناً، أو قد يقتلك “ثور هائج” على خلفية مرور بينك وبينه فاستل سلاحه الأبيض أو الأسود….قد تقتلك الظلمة على الطرقات الموحشة أو السرعة الزائدة أو حتى القيادة تحت تأثير الكحول والمخدرات…. وإن لم يقتلك أياً من هذا، وإن كنت حقاً إنساناً ذا ضمير حي، سيقتلك رويداً رويداً حزنك على “رفاقك في التضحية” من أناس أبرياء لا حول لهم ولا قوة الا انهم يعيشون معك في وطن يقتات مسؤولوه على دماء أبنائه الفقراء الكادحين… ولعل الحادث المروع الي وقع ليل الجمعة بين فانين لنقل الركاب وسيارة رانج روفر وكان ضحيته 5 شبان حتى الساعة وجرح خلاله حوالي 18 جريحاً، 4 منهم بحال الخطر، الا مأساة حصدت، كالعادة، أرواح الساعيين على رزقهم وعلى علمهم وعلى قوت أولادهم…. من سليمان الى محمد…. من ادغار الى ملحم….

ملحم مهدي طفيلي (34 سنة) استيقظ باكراً كعادته يوم الجمعة…. وضب أغراضه في شنطته، وخبأ في نفسه أملاً بغد أفضل كما يعدون…. رمق أطفاله، وأكبرهم ابن 8 سنوات، بنظرة وداع أخيرة ومضى… فالوداع ما عاد يؤثر في روحه التي طلاها التعب والكد والارهاق بعازل عن عواطف الشوق التي دائماً ما تتوهج داخله…. ترك بلدته شمسطار البقاعية وتوجه الى بيروت العاصمة، حاله كحال كثيرين من أبناء البقاع الذين اعتادوا شق الأنفس وصولا اليها….. وصلها في يوم الجمعة المشؤوم ذلك…. استجمع قواه من أطراف جسمه المنهك ومضى…. جاب شوارعها شارعاً شارعاً على قدميه المتعبتين، يبيع ما بجعبته من حاجيات…. ومع كل زبون تمنع عن الشراء منه، ازداد عزماً على البحث عن زبون آخر…. فهو ان لم يبع ما بحوزته، سيعود صفر اليدين الى أطفاله، وما من شيء يرعبه سوى تلك النظرة التي يلقاها منهم اذا لم يأتهم بحقهم كأطفاله….

اغسق الليل وأظلمت الطرقات… فهمّ “ملحم” بالعودة…. انتقى لنفسه الفان الأخير الذي سيقله الى منزله، حيث سيغسل تعب اليوم الطويل بحضن دافئ من عائلته وسينسى معاناته المؤلمة متى ما نادوه، “بابا، تصبح على خير”…. كانت اللحظات تلك تدغدغ “ملحم” في مقعده في “الفان” وتصبّره على وحشة الطريق الحالك السواد والمتعرج المسلك… ولكن….. وقع ذلك الاصطدام المشؤوم…. بين سائق الرانج روفر والفان الأول ثم مع الفان الثاني حتى انقلب الرانج….. أعشار من الثانية من التهور واللامسؤولية كانت اكثر من كافية لترتقي من الأرض الملعونة الى السماء الرحيمة أرواح 4 شباب، بينهم “ملحم” ويصاب أكثر من 18 جريحاً، ارتقى منهم لاحقاً جريح بينما يصارع الباقون من أجل البقاء…..

رحل “ملحم” على درب حمزة وسليمان وادغار…. تشابكت أرواحهم وهجرت أجسادهم التي راحت تنزف على أرض الكرامة والتضحية…. امتزجت دماؤهم بتراب الوطن ، وانهالت عليها دموع الحسرة والأسى من محبين ما خالوا يوماً أن يكون الفراق جارحاً هكذا… يوم الجمعة الأسود، سطر البقاعيون آية جديدة من آيات “الذود والفداء” ليس امام العدو الاسرائيلي ولا التكفيري بل أمام وحش الفساد والاهمال الذي ينهش من أبناء الوطن، على امتداده من أقصى الشمال الى اقصى الجنوب، خيرة شبابهم وشاباتهم…. ويبقى السؤال: الى متى؟ الى متى نقدم أحباءنا قرابين على مذابح وطن سيسلب أمجاده الفساد والإهمال والتقصير واللا انسانية واللاضمير؟

اترك ردا