بيروت اليوم

مسلسل لبنان | بطولة باسيل ومشاهدة جعجع جنبلاط الحريري

منير الربيع- المدن
غالباً ما يؤدّي الملل إلى الشعور بالإحباط. يولد الملل من تكرار لا لزوم له، أو من الجمود وغياب الفعل. هذا ما أصاب بمقتل بيئة سياسية واسعة ووازنة. لطالما انتظرت تلك البيئة اللحظة التي تنفض فيها وعنها غبار السقم، من دون جدوى. والموت لا يحبّ الانتظار، فيأتي أسرع من الرهان على معجزة في السياسة.

في لحظات الانتظار القاتلة، خرج أحد زعماء هذه البيئة، رافضاً شعور الإحباط بين أبناء ملّته فقط، نافياً أن تكون الطائفة السنّية مصابة بالإحباط. كان هذا المقتل الذي أصاب البيئة الأوسع، بيئة كان يطلق عليها إسم قوى 14 آذار،

المتنوعة والمتشعبة الفئات والتوجهات. هذا الزعيم ارتضى أن ينحدر مرتبة من الوطنية إلى الزعامة المذهبية، فأصبح ضائعاً في دهاليز استُدرِج إليها، وصريعَ تناقض بين “تيار عابر للطوائف” أو تيار يمثّل رئيسه أبوة السنّة.

ضربة تلو ضربة
المقتلة الأبرز، كانت لدى بيئة تنامى جمهورها على مقولة “ليس الإحباط قدراً” (سمير قصير)، فأصيبت كل فئات هذه البيئة على تنوعها وتلويناتها بالإحباط لا غيره. وما زاد طينها بلّة، هو رجوع بعض رموزها إلى حصونهم الطائفية، بدلاً من الرحابة النخبوية أو الثقافية العابرة لمنطق الطوائف. ففي تلك اللعبة،

ظهر مدى ضعفها وافتقادها للمبادرة. وهذا الكلام ينطبق على ثلاث قوى رئيسية اليوم، أصبحت في حالة منازعة، أقصى ما تطمح إليه هو البقاء على قيد الحياة السياسية. من سعد الحريري إلى وليد جنبلاط وصولاً إلى سمير جعجع.

نجح خصوم هذا الثلاثي في تشتيته وتفتيت قواه. فانتقلت الحالة من عامل المبادرة إلى عامل الانتظار وردّ الفعل، والاكتفاء بالتعبير بكلمة أو موقف أو تغريدة، لا تقدّم ولا تؤخر، إنما تتلقى الضربة تلو الضربة، مفضلةً حني الرأس وانتظار لحظة ربما يستعاد فيها التوازن.

ويغيب عن بال هذا الثلاثي، أن الانتظار من دون الإقدام على فعل، لا يرحم، ولا يترك مجالاً لالتقاط الأنفاس. الكسل الذي يتّسم به هؤلاء، أياً كانت ذرائعه، أمنية، سياسية، تكتيكية.. هو مقتلهم المحتوم.

ونفاد أي عامل من عوامل المبادرة لديهم، على هذا النحو، وضعهم في خانة الدفاع عن بيوتهم، بدلاً من القتال في أبعد الساحات وأوسعها لتحقيق التوازن السياسي.

مسار الإذعان
أن يخرج رئيس التيار الوطني الحرّ معلناً، أن “السنية السياسية لا تهضمه وتتعاطى معه بضغينة، بسبب تناميها على جثّة المارونية السياسية، وسلبت كل حقوق المسيحيين ومكتسباتهم”. ويعلن استمرار معركته، لاستعادتها منهم بشكل كامل.. لا تمثّل جديداً. فصاحب هذا الخطاب شق مساراً سياسياً طويلاً كرّسه بإبرام تسوية أذعن له فيها تلك القوى،

وأدت إلى وصول مؤسس تياره إلى رئاسة الجمهورية، وإطلاق يده بلا أي مكاسرة أو منازلة في مؤسسات الدولة. صاحب هذا الخطاب، لم يترك مناسبة لم يؤكد فيها سعيه لـ”استعادة الصلاحيات”، منذ إقرار القانون الانتخابي، والذي خاض الانتخابات بموجبه تحت شعار لا لبس فيه، أنه يريد “استعادة صلاحيات ما قبل اتفاق الطائف”.

ولم يجد من يواجهه بغير كلام. يُقتحم باب السراي الحكومي، فيخرج بيان لكتلة “المستقبل”، يدّعي الحرص على رئاسة الحكومة وعدم المساس بصلاحياتها. لكن الكلام يتبدد في الهواء، بلا أي مبادرة لتحويله إلى فعل حقيقي. تماماً، كما كان الكلام سمة وحيدة في فترة تشكيل الحكومة،

للتعبير عن رفض المساس بصلاحيات رئاسة الحكومة. فبقي الكلام في مكان والفعل في مكان آخر. هكذا، خرجت الحكومة بالشكل الذي يريده رئيس التيار الطامح لـ”استعادة الصلاحيات”.

تشتيت هذا الثلاثي، وإلهائه بمكتسبات تفصيلية لا قيمة لها، هو الذي أفقد قواه أي فعل أو قدرة على المبادرة. وبنظرة عامة على المشهد السياسي الذي يحتله جبران باسيل، يظهر رئيس التيار الوطني الحرّ وحده لا شريك له. يلهي رئيس الحكومة بمعركة خاسرة للدفاع عن صلاحياته.

يستفيد من تسعير خطابه على الساحة المسيحية، بحشر القوات اللبنانية وإرباكها، فتضطّر دوماً للبحث عن تسويات أو مخارج لتفادي مطرقة الضربات. كما ينجح في تجنّب سهام وليد جنبلاط، عبر افتعال إشكالات على الساحة الدرزية، وإشغاله في ترتيب بيته الداخلي.

العصب والغريزة
بمجرد انتقال النقاش من العناوين السياسية إلى التفاصيل اليومية على قاعدة انتصار استراتيجي لـ”الممانعة”، انتقلت إدارة السلطة في البلد لصالح وزير الخارجية، بينما تغيرت حسابات القوى المخاصمة له، فلم يعد الحريري زعيم قوى 14 آذار، بل انكمش في دائرته الضيقة، التي ينافسه فيها زعماء مناطق.

والأمر نفسه بالنسبة إلى وليد جنبلاط. بينما يبقى سمير جعجع منشغلاً بكيفية صد هجمات باسيل في الشارع المسيحي، ما يضطره إلى التحصن المبدئي بالعناوين الوطنية، والعمل اليومي مسيحياً تحت شعار فرضه باسيل نفسه،

أي “استعادة الحقوق”. وبما أن باسيل سبقه إليها، وصادر خطاب الموالاة والمعارضة معاً، فقد نجح في موضعة “القوات” بدائرة الدفاع عن النفس.

يقف باسيل على تقاطعات محلية وإقليمية دولية، ويراهن على التناقضات بين مختلف القوى المتصارعة، بينما خصومه يفتقدون لأي عنصر من عناصر المبادرة. وضعف الآخرين يكمن في فقدان أي قضية يقاتلون في سبيلها. بينما باسيل يخترع قضية كلما أراد،

ويستشرس في القتال بسبيل تحقيقها، بل هو يذهب عميقاً في المواجهة لتحقيقها، خصوصاً عندما أمسك بعصب أساسي أيقظه وأحياه في غريزة باتت معممة هي “حقوق المسيحيين”. وفي هذا الخطاب “المسيحي”، الذي اختاره باسيل ملعباً له، يحشر جميع مواجهيه، من أبناء بيئته أو من خارجها.

في حين كانت قوة جعجع جنبلاط مستمدّة من مطلب السيادة والاستقلال و”حقوق اللبنانيين”، قبل الدخول إلى ملعب صغير، تحول فيه باسيل إلى “كابتن” يدير اللعبة وقواعدها.

تكمن قوة باسيل في مأزق خصومه، طالما استمرت شروط المعركة وفق ما فرضه هو. ولن يكون هناك أي فرصة للنجاح في مواجهته. هذا يحتاج إلى افتعال معركة أخرى، خارج منطق المحاصصة والتعيينات. لأن هذا المنطق في أقصى تطوره قد يفضي إلى الرهان على حزب الله، ليلعب دور الوساطة بينهم وبين باسيل، لعلّهم يحصلون شذرة من المكاسب.

ما بعد رفيق الحريري
لمواجهة هذا المسار، يجب تغيير قواعد اللعبة، لا البقاء أسرى معادلة يتحكّم باسيل بها، ولا الرهان على الوقت. المواجهة تتطلب إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي وفي نمط العلاقات وفي مضمون الخطاب. تتطلب طاقماً جديداً قادراً على الابتكار والتطوير، لا التلقف..

ولا هو غارق في حب “السيلفي” والعلاقات العامة على طريقة الشركات. يتمتع الاشتراكي والقوات اللبنانية ببنى منظمة وقوية، قادرة على المواجهة وتغيير قواعد اللعبة، لكن ذلك يحتاج إلى قرار،

والعمل على تكوين رأي عام حاضن وحاضر. ومن شأن هكذا حراك طويل النفس ومديد، أن يستدرج حكماً وعياً مشتركاً إسلامياً ومسيحياً، وربما أيضاً استفاقة سنّية لإعادة التوازن وليس بهدف الاصطدام.

ميزة رفيق الحريري، والذي مثّل انطلاقة السنية السياسية، أنه وضع كل قواه لتحقيق مشروعه بخطاب ومضمون وطموح وإرادة “لبنانية”، وأحاط نفسه بجمع من أصحاب الرأي الآتين من كل البيئات والانتماءات والطوائف، وما كان ليتنازل..إلا ظاهرياً، مستمرّاً في خلق المبادرات. وجدّية مشروعه وقوته أدت إلى أن يدفع ثمنه بدمائه.

أما اليوم فلم يتبق شيء من السنية السياسية. وأسطع مثال الآن هي المفاوضات حول ترسيم الحدود المحصورة برئيسي الجمهورية ومجلس النواب، والقرارات الحكومية رهينة لدى توجهات وزير الخارجية. وهذا ما ظهر في الموازنة وسيظهر أكثر في التعيينات.

استمرار تنامي الشعور بالإحباط لدى السنّة، بسبب فقدان فعالية السنية السياسية، سيدفع ببعض أبنائها إلى التطرف أو إلى الإنحلال التام والغياب عن المشهد. وهذا سيؤدي إلى اهتزاز في ميزان الكيان، في مقابل وضع ركائز لامبراطورية جديدة يشيّدها باسيل،

الذي يستخدم سلاحاً لا يجيده الآخرون، هو المبادرة الإعلامية واختلاق الحدث – الإثارة الذي ينحفر في عقول اللبنانيين. عندها ليست “الحقيقة” هي المهمة، بل براعة “التمثيل”، خصوصاً في حياة سياسية يهيمن عليها فن الكذب كلبنان.