بيروت اليوم

ميقاتي | أزمة النزوح باتت أكبر من طاقة لبنان على التحمل!

ألقى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الجمعية العامة للأمم المتحدة الكلمة الآتية:

“السيد رئيس الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة المحترم،
سعادة أمين عام الأمم المتحدة، السيد أنطونيو غوتيريس
السادة رؤساء الدول والحكومات والوفود،
السيدات والسادة.
أتقدّم منكم حضرة الرئيس بأحر التهاني على توليكم رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة والسبعين، كما أنتهز المناسبة لشكر معالي السيد عبدالله شاهد على حسن إدارته الدورة السابقة ولكافة الجهود التي بذلها في هذا الإطار، واتوجه بالتحية أيضاً إلى سعادة الأمين العام أنطونيو غوتيريس على مساعيه المتواصلة لتعزيز دور منظمة الأمم المتحدة وتطوير عملها.
يمر العالم اليوم بمرحلة بالغة الدقة من الصراعات المسلحة والأزمات المترابطة التي تثير قلقنا جميعاً. وما من مكان افضل للتداول بشأن هذه التحديات من هذه القاعة التي تضم كل دول العالم يجمعها ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي يفخر بلدي لبنان بدوره في انشائها كما بعقود من التعاون المثمر معها.

وفي هذا الإطار يسرني، السيد الرئيس، أن أتوجه بالشكر لكم، وعبركم لمنظمة الأمم المتحدة، بكافة فروعها ومؤسساتها المتخصصة وتلك العاملة في لبنان، على الجهود التي تقوم بها من أجل مساعدته والمساهمة في تخفيف تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي يمرّ بها. وأخص بالشكر قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل) لما تبذله من تضحيات وجهود من أجل الحفاظ على الاستقرار في جنوب لبنان، بالتنسيق الوثيق مع الجيش اللبناني الذي نتطلع معكم وعبركم إلى تعزيز قدراته العسكرية وتخفيف الأعباء المادية عليه. وفي هذا السياق نؤكد التزام لبنان التام بتنفيذ كامل مندرجات القرار 1701 وكافة قرارات الشرعية الدولية.

أما في ما يتعلق بترسيم حدودنا البحرية بوساطة أميركية مشكورة ومرحب بها، وبرعاية أممية، يهمني أن أؤكد مجدداً تمسك لبنان المطلق بسيادته وحقوقه وثروته في مياهه الإقليمية ومنطقته الاقتصادية الخالصة، مكررين أمامكم رغبتنا الصادقة في التوصّل إلى حلٍّ تفاوضي طال انتظاره. ويسرني اعلامكم بأنّنا أحرزنا تقدماً ملموسا نأمل أن نصل إلى خواتيمه المرجوة في وقت قريب.

إنّ لبنان مصمم على حماية مصالحه الوطنية وخيرات شعبه وعلى استثمار موارده الوطنية، ويعي أهمية سوق الطاقة الواعد في شرق المتوسط لما فيه ازدهار اقتصادات دول المنطقة وتلبية حاجات الدول المستوردة.

السيد الرئيس،
إنّ لبنان، ومن منطلق ايمانه بالدور الرائد الذي تضطلع به منظمات الأمم المتحدة، يؤكد التزامه بأجندة التنمية المستدامة 2030 واتفاق باريس للمناخ، كما وبالأطر الدولية الراعية لمسائل نزع السلاح بأشكاله المختلفة. ونرحّب أيضاً بالعمل الهادف إلى إيجاد تفاهم دولي لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل إنفاذاً لقرار الجمعية العامة رقم 73/546. ونحن، إذ نشيد بما تحقق لهذه الغاية في دورات المؤتمر السابقة، نتطلع لأن تتكلل بالنجاح الدورة الثالثة من المؤتمر المزمع انعقادها برئاسة لبنان في تشرين الثاني المقبل، وأن تسهم في دعم مسار انشاء المنطقة الخالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط.

السيد الرئيس،
يمر الكثير من دول العالم اليوم بأزمات اقتصادية حادة، أسبابها متعددة، متشعبة وغير خافية على أحد، أثرت بشكل كبير على جوانب الحياة كافة، وحتّمت على حكومات دول عدة اللجوء إلى اتخاذ تدابير استثنائية لمحاولة التخفيف من وطأة هذه الأزمة على شعوبها.
أما في بلدي لبنان، فنحن نواجه منذ سنوات عدة، أسوأ ازمةٍ اقتصادية اجتماعية في تاريخنا ، نالت من سائر المؤسسات ووضعت غالبية اللبنانيين تحت خط الفقر، وتسببت بهجرة الكثير من الطاقات الشابة والواعدة، وخسارة الوطن خيرة أبنائه. فإضافة إلى التدهور الاقتصادي الحاد وغير المسبوق، وانهيار سعر صرف العملة الوطنية إلى ادنى مستوى تاريخي لها، والاغلاقات العامة التي فرضتها جائحة كورونا، ناهيك عن فاجعة انفجار مرفأ بيروت الذي نحرص على جلاء الحقيقة بشأنه، وتبعات الأزمة السورية وأعباء النازحين، وجدت الحكومة اللبنانية نفسها أمام أزمة سياسية غير مسبوقة، حتّمت علينا السير ببطء وحذر شديدين في حقل أَلغامٍ سياسيةٍ واقتصادية، لتدارك الوضع وتأسيس الأرضية المناسبة للمساهمة في الوصول بالبلاد إلى بر الأمان.

السيد الرئيس،
نجحت حكومتنا في تحقيق العديد من الأهداف التي وضعتها، ومن ابرزها إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها رغم الظروف الصعبة التي يعيشها البلد، لكن الطريق أمام لبنان ما زالت شاقة وطويلة ومليئة بالمصاعب قبل الخروج من الازمة، حيث نعمل بكل ما أوتينا من قوة وعزم على تخطيها بنجاح. وفي هذا السياق قامت حكومتنا بتوقيع اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي، وإنّنا نتعهد من هذا المنبر السير قدما بكل الإصلاحات التشريعية والإدارية الضرورية للخروج من محنتنا الحاضرة.

نحن نعول في هذا الاطار، كما دوماً، على مساعدة أصدقاء لبنان الدوليين، وفي طليعتهم الدول العربية الشقيقة، التي لا غنى للبنان، البلد العربي الهوية والانتماء والعضو المؤسس لجامعة الدول العربية، عنها. إنّ انتماء لبنان العربي وريادته في التزام القضايا العربية هما ترجمة لما جاء في دستوره وفي اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الاهلية الدامية التي عصفت ببلادي. ولا بد من أن أؤكد، تكراراً، التزامنا هذا الاتفاق، وعدم تساهلنا مع أي محاولة للمس بمندرجاته، إضافة إلى تجديد الالتزام بمبدأ النأي بالنفس الذي انتهجناه منذ حكومتنا الماضي سعياً لإبعاد وطننا قدر المستطاع عما لا طاقة له عليه.

كما تعول الحكومة اللبنانية أيضاً على منظمة الأمم المتحدة ودولها الأعضاء، التي كانت وما زالت تؤكد عبر مساعدتها المشكورة للبنان، أنّ وجود دولة لبنانية قادرة ومزدهرة، هي حاجة ماسة للأمن والسلم في المنطقة والعالم. وفي سياق جهود معالجة الازمة الاقتصادية تعمل حكومتنا أيضاً على خطة تعاف مالي واقتصادي تتكامل مع تعاوننا مع صندوق النقد الدولي، وعلى رزمة إصلاحات هيكلية وقطاعية شاملة تلبي متطلبات الشعب اللبناني وتوفر له شبكة أمان اجتماعي، وعلى وضع القوانين التي تؤمن الشفافية المطلقة وتكافح آفة الفساد التي ازدادت بفعل الانهيار الاقتصادي. كما نعمل في الوقت عينه على إعادة اطلاق الاقتصاد وتثمير الفرص العديدة الكامنة فيه، لا سيما الطاقات الشابة التي هي أمانة في أعناقنا وشعلة أمل في إنجاح نموذج اقتصادي لبناني مفتوح على العالم والفرص الرائدة.

وفي هذا الاطار نناشد الدول الشقيقة والصديقة أن تكون إلى جانب لبنان في محنته الراهنة تحديداً وأن تؤازره للخروج منها ومعالجة تداعياتها الخطيرة على الشعب اللبناني وبنية الدولة وهيكليتها. ونتطلع إلى إعادة عقد مؤتمر أصدقاء لبنان الذي طالما احتضنته فرنسا بالتعاون مع أصدقاء لبنان وأشقائه. إنّ وجود دولة لبنانية سيدة ومستقلة، قوية وقادرة، تحمي النظام الديمقراطي البرلماني والحريات العامة والخاصة، وتؤمن بالتسامح والتآخي والتلاقي، وتعتمد سياسة “النأي بالنفس” والابتعاد عن “سياسة المحاور”، هو حاجة ماسة للأمن والسلم والسلام والاستقرار والازدهار في المنطقة. كما إنّ وجود حكومة مركزية قوية تسهر على سيادة القانون وحسن تطبيقه، إضافة إلى توفير بيئة حاضنة ومحفّزة لمزاولة الأعمال والقطاعات المنتِجة والخدمات، على تنوّعها واختلافها، وفق معايير السوق والاقتصاد الحر، ومتطلبات العصر، و”ثورة المعلومات والاتصالات”، هو أيضاً حاجة ماسة للمنطقة بأسرها، وأفضل السُبُل لنا جميعاً لمواجهة تحديات الفقر والبطالة والتطرف والإرهاب، وتجنب الوقوع في المجهول.

السيد الرئيس،
يقوم لبنان منذ أكثر من عشر سنوات بدور طليعي في تحقيق الصالح العام العالمي من خلال استضافته لعدد هائل من النازحين السوريين يصعب احصاؤه بدقة. لقد حرصنا منذ مطلع الازمة السورية على اعتماد سياسة الحدود المفتوحة ايماناً منا بالاعتبارات الإنسانية، أما اليوم فقد باتت أزمة النزوح أكبر من طاقة لبنان على التحمل. يهمنا كذلك تأكيد أنّ الدستور اللبناني وتوافق جميع اللبنانيين يمنعان أي دمج أو توطين على أراضيه وأنّ الحل المستدام الواقعي الوحيد هو في تحقيق العودة الآمنة والكريمة إلى سوريا في سياق خارطة طريق ينبغي أن يبدأ العمل عليها بأسرع وقت وبتعاون كافة الأطراف، وتوفير مساعدات إضافية نوعية للدولة اللبنانية ومختلف إداراتها وبناها التحتية التي تنوء تحت عبء تدفق كبير للنازحين منذ أكثر من عشر سنوات.

السيد الرئيس، تبقى القضية الفلسطينية القضية الام التي تعيق تحقيق السلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. إنّ الظلم الواقع بحق الشعب الفلسطيني آن أوان رفعه وتحقيق الدولة الفلسطينية السيدة والمستقلة وعاصمتها القدس الشريف وتنفيذ كافة قرارات الشرعية الدولية بهذا الشأن بما في ذلك قرار عودة اللاجئين إلى ديارهم.

وفي سياق الكلام عن اللاجئين الفلسطينيين اسمحوا لي أيضاً بالتشديد على محورية الدور الذي تقوم به الاونروا في خدمة أهداف الأمم المتحدة ومقاصدها من خلال مساهمتها في رفع قسم من الغبن اللاحق باللاجئين الفلسطينيين والمساعدة في تحقيق قدر من التنمية والاستقرار الإقليميين.

وفي هذا السياق نعبر عن بالغ قلقنا من الحالة المالية الحرجة للوكالة وللعجز المتراكم في موازنتها، مما يعرّض تقديم خدماتها للخطر. كما نجدد ترحيب لبنان ودعمه لكافة الجهود الدولية المبذولة لسد العجز حيث يبقى التحدي الأكبر الخروج بحل مستدام للفجوة التمويلية.

السيد الرئيس،
إنّ لبنان صاحب ثقافة ضاربة في التاريخ وصاحب رسالة سلام وتسامح وحوار. وفي حين يمر بلدي بفترة عصيبة راهنة، فإنّ الصعوبات لن تثني اللبنانيين عن المضي قدماً في إعادة ترسيخ ازدهارهم وتزخيم الدور الريادي الذي طالما لعبه لبنان عالمياً. نريد لبنان ساحة تلاق وليس ساحة فرقة – نريده مساحة للحوار وليس التنافس – نريده أميناً لمخزونه الروحي الذي يجمع قيم الأديان السماوية وقيم الحق والعدل في هذا العالم، ويقيني أنّه بوحدة شعبه ومساعدة اشقائه أصدقائه نستطيع تحقيق ما نصبو اليه.

في الختام، أكرر شكري لمنظمة الأمم المتحدة على تعاونها الدائم مع لبنان وشراكتها المستمرة ولكل الدول الأعضاء المحبة للبنان والداعمة له، وأكرر مطالبتي للجميع بتحييد لبنان عن كافة صراعات المنطقة والعالم. كلما كبرت التحديات ازدادت رغبتنا بالعمل سوياً لخير شعوبنا جميعاً ومصلحتها. لقد أثبتت الأزمات الأخيرة المتلاحقة أهمية التعاون الدولي في معالجة الازمات التي باتت بمجملها عابرة للحدود.

من هنا أختم، من حيث بدأت الأمم المتحدة رسالتها، أيّ بالعمل الجماعي المتكامل والمتضامن لمصلحة الإنسان ورفاهيته ومن خلال العدل والأمن والسلام والتنمية المستدامة. مع أملنا ورجائنا لعالمٍ أفضل لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
ولكم منا أطيب التمنيات بالتوفيق”.