بيروت اليوم

مشتاقة للسَّيد؟ فأجابت إم حسن نصرالله “والله يا بنتي، أنا عطول مشتاقتلو، وقليل لشوفو”

إستقبلتني السيّدة العلوية الهاشمية بسماحة القلب الكبير، تعكسها ملامح الوجه الذي أحببناه كوجهها النبيل الطيب، والذي لم تستطع مرارات السنين الماضية، ولا قلق الأيام الحاضرة أو أرق الليالي الغابرة، أن تفقده شيئاً من حنوّه وعاطفته.

وأصرَّت على أن تذيب لي بيدها المجاهدة مسحوق السُّكَّر، فكان الشاي الأطيب مذاقاً، بطعم العزّة، ونكهة الكرامة، ولون الحبّ،… نعم، هي متعبة بعض الشيء ولكن ليس كما أشيع، ذكرياتها غزيرة “أبو هادي” و”طلّته” وأمهات الشهداء وأشواقهنَّ، لذلك شطبت أسئلتي؛ فحديثها أغلى من كلّ سؤال.

المهمّ أنني كنت في تحقيقٍ لم أرغب الوصول إلى نهايته؛ لأنَّها أعادت لي باستقبالها الإنسانيّ الدافئ – وبالإذن من أبي هادي – دفء أمي، أمي التي لم تُنسِها أوجاعُها في أيامها الأخيرة صورة السيد حسن حفظه الله ولا صورة شهيديها،

أمي التي لو كانت معي، لقاسمتني فرح هذا اللقاء وقدَّمته قبلي تحية عرفانٍ في عيد الأمّ، لأمّهات مجتمع المقاومة بشهدائها ومجاهديها.

أم حسن جوهرة الحياة
قبل بدء التسجيل، مسحت “أم حسن” دمعتين انحدرتا عنوةً، فسألتها: “مشتاقة للسَّيد؟” فأجابتني بتأثر بالغ “والله يا بنتي، أنا عطول مشتاقتلو، وقليل لشوفو”. فاحترمت مشاعر أمومةٍ لا تُحدُّ، وبدأت مع أبي حسن تحقيقي عنها فقال: “إنَّها أمٌّ وأمٌّ وأمّ؛ جوهرة الحياة في أسرتي، منذ زواجنا، لم تُغضب أحداً، ولم تظلم أحداً.

تاريخها معي يشهد على أنَّها من نسلِ السّادةِ الأشراف أدباً ونسباً. لقد وفقنا الله سبحانه والتقينا كعائلتين مؤمنتين، فمَنَّ الله علينا بهذا الخلف الطاهر، والذرية الصالحة. لم تكن تهمّها الدنيا في شيء. هي منذ العام 1975 تصبر على غياب أولادها عنها.

كانت كلَّما طمأنتها عنهم تقول: سلَّمتهم لله. إنها فعلاً من الصابرات على الخوف والقلق والانتظار الدائم لرؤية أبي هادي. ولها ولأمهات الشهداء مني تحيَّة في عيدهنَّ، هنَّ كنوز هذه الأمة المقاومة. هنّ أعطين فلذات القلوب والمهج. وتمسَّكْن بولاية أهل البيت عليهم السلام.

وكان الله وسيبقى حسبهنّ ونعم الوكيل. إنهنّ أعلى مثالٍ للأجيال التي ربَّينها، تماماً كالوالدة العزيزة، “أم حسن”، التي قدَّمت على قاعدة: “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”. بالمدد الإلهي وبهنّ تحققت الانتصارات والآتي أفضل بإذن الله لأجلهن وضع الله سبحانه الجنة باتساعها وعظمتها تحت أقدامهن”.

أم حسن.. مدرستنا الأولى
ترفض الحاجة زكية نصر الله إعطاء أمها شهادةً في عيد الأم، “فهي من تعطينا جميعاً شهادات في الأمومة. إنَّها مدرستنا الأولى. منها تعلَّمنا الصبر والمثابرة، والهدوء والإيمان والكفاح. هي كأمهات الشهداء الصابرات اللواتي يرفعن رؤوسنا عالياً، لهنَّ مني كلَّ التهاني في عيد الأم.

ربما انفردت أمي عن الأمهات، بمعاناة ألم الفراق المرّ المحتوم، لفلذة الكبد الغالي، لكن أمي تكابد منذ زمن ألم الخوف والقلق الدائم على حياة السيد حفظه الله. إنَّ ألم أمّ الشهيد لا يعرفه إلا الله وأم شهيد مثلها، وأمي أيضاً، لا يدرك معاناتها إلا الله سبحانه، أضيفي إلى ذلك ألمها عندما تواسي أم الشهيد.

كأنها أمٌّ ثانية لها أو له”. أمّا “السيد” فتعتبر زكية أنّه نموذج لن يتكرَّر حتّى في أولادها وأخوتها، “كذلك أمي ستبقى نموذجاً للأمهات الصابرات اللواتي لن يتكرَّرن إلا في مجتمع شريف، مقاوم”.

سيدة التواضع أمنا جميعاً
ولكي أراها بعيون أخرى، استمعت إلى قريبتها التي عرَّفتني إليها سابقاً، فأكَّدت السيدة “أم هاشم”: “أنّ الحاجَّة أم حسن هي سيدة التواضع. تحرص على واجباتها مع الأقربين والأبعدين. تشاركهم أحزانهم، فتقصدهم في قراهم البعيدة. فهي منهم ولهم.

وهي ترفض في هذه المناسبات محاولات بعض الأخوات تقبيل يديها(1) الكريمتين، وتبادر إلى مبادلتها بقبلةٍ على الجبين؛ لأنَّها تعتبر نفسها أماً كسائر الأمهات وهي تنوِّه دائماً بوجوب إجلال وتقدير أمهات الشهداء وهي لا تعتذر عن عدم حضور مناسبة إلا إذا كانت تنتظر “السيد” بعد طول غياب، وهي تعتبره ليس ابناً لها وحدها.

والله لا أبالغ لو قلت إنها أمنا جميعاً. أليست هي من ربَّت لنا قائد سفينة الانتصارات العظيمة، حتى الوعد الصادق وما سيليه”؟.

أمومة أشعلت شمعة فأضاءت كوناً
حدَّثتني “أم حسن” بعد شجون حديث الطائرة. قرأت في عينيها الشوق إلى لحظةٍ تذوب فيها أمومةً قرب ذاك الذي ألقى الله عليه محبةً منه سبحانه في قلوب عباده أجمعين، وسيذوب فيها حتماً بنوَّة بين أضلع ذلك القلب الذي فاز بشرف أمومته.

أخبرتني الحاجَّة، أنها رأته أمس على شاشة التلفاز. ثمَّ حدَّثتني مطوَّلاً عن زمن البدايات المفعمة رضاً وهناءةً وحبَّاً قرب “أبي حسن”. ثمَّ انطلقت من طفولة “السيد”: لقد أمضاها رجلاً قبل أوان الرجولة، هي حمَّلته المسؤولية باكراً، فاهتمَّ بأخوته الصغار في غيابها لمساعدة أبيه. نال “السرتفيكا” وكان في التاسعة من عمره.

كان مجتهداً، يلبِّي دعوتها للدراسة ولو كان قد أنهى كلَّ واجباته. كان يحب الرياضيّات والشعر. كانت تجيبه بدقةٍ عن أسئلته في “الحساب”، من خلال خبرتها في إدارة دكَّانهم في النبعة، وكان يشكرها مساءً لأنَّ “فرضه” كان خالياً من الأخطاء تماماً بين رفاقه. كان محبوباً منهم ومن أساتذته. وقد حزن كثيراً عندما اضطرّ بسبب التهجير لترك مدرسته الأولى في النبعة “الكفاح”.

وقد فتح الحياة كلَّها على اسمها فيما بعد. هي حملت له يوماً شمعةً من أقاصي القرية وأضاءتها ليتابع درسه؛ لأنَّ ضوء القمر لم يكفه في غياب الكهرباء. شاركها “السيد” عناء التهجير وتَبِعَاته من النبعة وبرج حمود، مع مطلع الحرب الأهليَّة.

غطَّته بقامتها كي لا يؤذيه أحد، وهما يغادران المنطقة الشرقية في شاحنة قديمة، ومع ذلك شجَّعته على السفر إلى العراق للمرَّة الأولى، رغم توجُّسه من الطائرة. نصحته بالاتكال على الله ففعل ومضى… وكانت تلك أولى محطاتها مع الخوف على “السيد”.

فقد عاشته بكلِّ ألمه، صباحاً، عندما أخبرتها شقيقتها أن انفجاراً حصل في مطار بغداد ولكن…. فسلَّمت لله أمره وأمرها… وبعد انتخابه أميناً عاماً بعد استشهاد “أبي ياسر” خامرها خوف بسيط: “معقول بكرا يصير فيك مثل السيد عباس قدس سره؟” فأجابها بتسليم واطمئنان علّمته إياه “مش بتقوليلي اتكل ع الله وسلِّم أمرك إلو؟”.

لم يجبرها مرَّةً في طفولته أو صباه على زجره أو لومه. كان يساعدها في “قطف” الزيتون ولو تراكمت عليه الدروس. كان منذ طفولته شجاعاً، مصلِّياً. ناداها أحدهم لتراه يؤمّ رفاقه في الصلاة، ثمَّ يعظهم كأنَّه على منبر الجمعة. في شبابه، راسلها من بعلبك، طالباً منها أن تخطب له مَن أصبحت فيما بعد “أم هادي”.

وقد قصدت بعد بحثٍ طويل منزل والديها في رأس النبع، وتمَّ الزواج. أحبَّت أم حسن أمَّ هادي كابنةٍ لها وهي بادلتها حباً بحب “الله يرضى عليها وعلى كل كنايني وأصهرتي”.

والشهيد هادي كان متعلِّقاً بها كثيراً، لا يتناول فطوره من دونها، وعندما سافر إلى إيران للمرَّة الأولى كان يتَّصل بها كلَّ صباح، وكان يمازحها بقوله: “قلب اللي بحبك حبو”. ولم تجد سوى الدمع تشارك به أمَّ هادي بعد استشهاده. وهي ما زالت حتَّى اليوم تبكيه كلَّما تذكرته.

وقد أُعجِبَت أم حسن كثيراً بأمِّ ثلاثة شهداء من برعشيت، التقتها في رحلة إلى إيران، كانت متماسكةً، تشرح للجميع عظمة الشهداء والشهادة، وعندما ألمَّ بها حزن خفيف أمام أحد الأسئلة، غمرتها أم حسن بحنانها، ولم تتركها طوال الرحلة. وفي عدوان تموز خافت أم “السيد” على الناس كافَّةً، لا على “السيد” وحده.

كانت المجازر تحرمها النوم، وكانت تبكي لكلِّ ما مرَّ على الناس من مآسٍ. تذكَّرت وهي تقفل بوابة البيت الكبير بالمفتاح، نزوح الأخوة الفلسطينيين واحتفاظهم مع ذلك بمفاتيح بيوتهم. وقد عانت كسائر الخلق عذاب التهجير في هذه الحرب،

والقلق على زكية ابنتها التي حوصرت في “مارون الراس” وقد غادرتها بعد مرورها بصعوبات ومخاطر كثيرة. وكانت تنتظر رسائل السيِّد المتلفَزَة بلهفة كالناس جميعاً، فأخباره قد انقطعت عنها. ومع ذلك صبرت وفرحت عندما تحقَّق صدق الوعد بالنصر الذي أطلقه “السيِّد”.

تختتم أم حسن حديث ذكرياتها هذا بالشكر لكلِّ عوائل الشهداء وتوجِّه إلى أمهاتهنَّ التحية القلبية في عيد الأم وتدعو الله أن يجزيهن خير الدنيا والآخرة.

ولا تنسى في بطاقة المعايدة هذه أن تذكرة والدة الشهداء الثلاثة، الحاجة أم عماد مغنية. كما لا تنسى رفيقة درب سراج عمرها، أم هادي. و”للسيِّد” تعلن اطمئنانها إلى أنَّ الله كافله وقلبها وقلوب المؤمنين التي اعتلاها حبيباً، تدعو له وتنزل عليه من الله رضواناً، وللمقاومة وشعبها وشهدائها، دوام النصر.

غادرتها واثقةً بأنَّ النصر سيدوم بفضل سهر عينيها وعينيه المجاهدتين وسهر المقاومين الشرفاء، لتقرَّ في الدنيا عينا كلِّ أمٍّ وفي الآخرة عينا كل شهيد… سلامُ الله على الشهداء وعلى أمهات الشهداء والمجاهدين، اللواتي يصنعن بسهر القلب أعياد أجيالنا الآتية ويهبنها معنى الإباء، ويروين بدمع الشوق، وأشواق أم السيد ورود العيد، مقاومةً وأمومة ووفاء.

من أرشيف مجلة بقية الله – حوار ولاء إبراهيم حمود