بيروت اليوم

الحريري يثور على اهل تياره

منذ مُدّة يشعر رئيس الحكومة سعد الحريري، أنّ هناك خنجرًا أو أكثر يطعنه في خاصرته عند كلِّ مرّةٍ يحاول فيها التمايز عن خطاب تيّار المستقبل المعهود.

المشكلة، أنّ الخنجر المسلول تُمسِك به جهات تنهل من مائدة آل الحريري أو كوَّنت هويّتها السياسيّة من أركان هذا البيت. عند هذه النقطة يقف “الشيخ سعد” بين اثنتين، السلة والذلّة!

ما استدعى الأزمة الجديدة التي تُلاطم مراسي رئيس مجلس الوزراء، وقوفه على مسافة واحدة من حزب الله المُعتدى عليه اسرائيليًّا في الضاحية الجنوبية لبيروت، مُكرِّرًا الشيء ذاته عند كلّ مرّة يُسأل فيها عن رأيه.

لا بل، إنّ اعتماده علاج المُسكِّنات للمواقف الصادرة من خلال ظهوره على قناة CNBC الأميركيّة، لم يشفِ غليل الحاقدين، رغم أنّه وظّف عبارات سياسيّة “قاسية” بحقّ الحزب.

و للمفارقة، أنّ تلك العبارات لم تزعج الضاحية بشيء، بل هُضِمت بنسبة كبيرة منها، واتضحَ بعد ذلك، أنّها تُزعج الفريق الداخلي المنتقد للحريري، الذي عثرَ على خطاب مبني على الشيء ونقيضه، ما يقود إلى فهم أنّ الحريري يناور خارجيًا حتى يخفي تموضعه إلى جانب حزب الله داخليًّا.

وعلى عكس ما أُشيع حول “غضب” الضاحية من مواقف الحريري على الشاشة الأميركيّة، يبدو أنّ اجوائها تميل صوب “تفهّم” ما قاله الرّجل واعتبار أنّه أتى انطلاقًا من الضرورات حيال الخطاب الموجَّه إلى الخارج لا نحو الداخل، فما يهمّ الحزب هو السلوك وليس الخطابات.

الآن، يُنادي سعد الحريري بعبارة “هيهات منّا الذلّة”، ليس إنطلاقًا من وجهٍ شيعيٍّ ينبعث من طيّبات ذكرى عاشوراء، بل من آلام تكتنفه وتعود إلى ثقل إستقبال طعنات السهام والخناجر الصادرة عن مقرّبين.

ثمّ إنه لا يريد الذلّة لنفسه بل يسعى لأن يقوى على الوقوف بوجه الرياح العاتية، ولاسيّما أنّ جبهتها تتوسَّع نحوه وكان آخر المنضمّين إليها وزير الداخلية السّابق نهاد المشنوق تحت لافتة “صون صلاحيات الرئاسة الثالثة”.

المشكلة بالنسبة إلى “الشيخ سعد” لا تأتي من “الحاشية السنيورية” التي امتهنت منذ زمنٍ بعيد اعتماد خطاب “الحرتقة” عليه، وإختبار الاحتجاز في السعودية وما تلاه ما زالَ ساري المفعول ويتقبّل منطق التعامل به، بل أنّ المشكلة تكمن في “تكويعة” بعض المحسوبين عليه مثل نهاد المشنوق الذي كان مصنّفًا ضمن خطّ الدفاع الأوّل.

من منّا لا يذكر خطاب دار الفتوى “الاستشهادي” زمن إحتجاز “بيّ السنة” في السعودية، يوم وقفَ “أبو صالح” رافضًا البيعة “على العميانة” وينتقد التصرّف “معنا كقطيع غنم”.. استمرّ كذلك إلى أن قضت الانتخابات أمرًا كان مفعول، فحوّلته من ضفّةٍ إلى أخرى.

كثرٌ يعتقدون، أنّ هناك تمايزًا يطبع المشنوق مع الفريق “السنيوري”، لكنّه يصبح هامشيًّا عند اختبار انبعاث الأضرار بوجه “الشيخ سعد”. يصبحون بالتالي وجهان لعملة واحدة.

لكن يبدو أنّ الرئيس الحريري لم يطل الغيبة عن رد الفعل هذه المّرة. سريعًا، امتطى جواد الرّد، ومن حفل تكريم حجاج بيت الله الحرام في وسط بيروت، قادَ جواده نحو ميدان الاشتباك موجّهاً انتقادات إلى خصومه من دون أن يسمّيهم، واصفًا إياهم بـ”قليلي الوفاء والكذابين”.

وقد اسقطَ وريث آل الحريري السياسي المقارنة التي يحملونها بينه وبين والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري على أرض الواقع، قال:”رفيق الحريري كان صادقًا، وفي هذه الأيام لا نرى الكثير من الصدق. ورفيق الحريري كان وفيًا، فأين الوفاء في هذه الأيّام”.. مجرّد اشارة حول توظيف هؤلاء لهويّة والده بنيّة قتاله!

في حال اللجوء إلى إجراء “تعداد” حول الجهات التي قصدها الحريري من كلامه، ليسَ صعبًا العثور على جينات “قواتية سنيورية ريفية مشنوقية”، أجمعَ خطاب الحريري على التصويب نحوها بالجمع وبالمفرّق، وهذا دليلٌ على تخلّي المعني عن سياسة المهادنة مع أقرانه.

لم يعد سرًّا، أنّ المقرّبين من “الشيخ سعد” يشعرون منذ مدّة بأنّ الاخير شرَّع، أو يكاد، “الثورة على الكذابين”، في خطوة تندرج ضمن مشروع “تطهير تيّار المستقبل من المخلين بالآداب السياسية”.

وعلى ذمّة القائل، سعد الحريري الجديد لم يعد يُحبِّذ وجود “لقلاقين” إلى جِواره، من أصحاب ضغائن وشهوات وعقد مزمنة. سعد الحريري يُريد معتدلين يفهمون عليه ويفهم عليهم، وليس متآمرين، يأمرهم فيطيعون، وإن اعترضوا يعترضون بحق ليس عبر النكث والنكء والطعن والكذب والتآمر والتجريح، كما يحصل الآن.

وعلى هذا الاساس، يبدو أنّ التعديلات قد رشحت على أمين عام تيّار المستقبل، احمد الحريري، الذي بدا خلال ظهوره الأخير في الشمال ميّالاً صوب “الاعتدال”، ردّد هذه العبارة أكثر من مرّة، مسقطًا الخطاب القديم كليًّا… هذا هو النموذج الجديد.

إنطلاقًا من ذلك، يؤسِّس الحريري إلى شمل هذا السيناريو على سائر منسقيات تيّار المستقبل. المقرَّبون من “الأزرق” لا يخفون حصول “نفضة جماعية داخلية”، بحثًا عن المخلين بالأمن، السنيوريين وغيرهم. هؤلاء لا يخفون أبدًا، أو يخجلون من البوح، أنّ “الشيخ سعد” يُريد الولاء السياسي الكامل وليس منقوصًا أو “مخلخلاً”.

في السياسة، تبدو الأمور بعد ارتداء الحريري لامة حربه ولجوئه إلى خطاب “آلة كشف الكذب” أنها مشرّعة على احتمالات كثيرة أبواب مواجهة متعدّدة بين الفريق الداخلي المعترض الذي يركن إلى دعم سعودي محدود، وبين فريق تيّار المستقبل الأصيل. تبعًا لذلك سيبني “الشيخ سعد” صعوده السياسي الجديد.