بيروت اليوم

الإبنة الصغرى للشهيد مغيط أبصرت النور في غيابه…كلمات بلسان عوائل شهداء الجيش اللبناني

(ناتالي اقليموس – الجمهورية)

مَلّت زرقة السماء من بؤبؤ عيني عمر الإبن البكر للشهيد مغيط وهو لم يتعب من التحديق عالياً موزّعاً القبلات: “هيدي بوسِة لـ بابا” فوق بالسما”. أمّا شقيقته ماريا الصغرى التي أبصرت النور في غيابه ولم يَتسنّ لها التعرّف إليه، فتحاول إرواء شوقها بالصور المعلّقة لأبيها في أرجاء البيت وفي الحي، فتضحك أمام كل لقطة له مندهشة: “هيدا بابا”. أما شقيقها الثاني حمزة فيرى والده في كل جندي على الطريق، لذا يستوقفه ليُلقي عليه التحية ويقبّله كمَن “رِجعِتلو الروح”.(…)

لا حاجة لأن تسمع كلمات نظام مغيط شقيق الشهيد إبراهيم مغيط الذي أسر واستشهد بعد معارك عرسال، يكفي أن تنظر في عينيه لتفهم “كأنّ الحادثة وقعت اليوم مش مبارحة”، فيقول وعيناه مغرورقتان بالدموع: “إقتربنا من مرور 4 سنوات على غياب أخي، ولكن كأنه استشهد بالأمس، فالوجع كبير، والشوق أكبر، نفتقده يومياً أنا وعائلته. في الوقت نفسه نشعر وكأنه موجود معنا، بيننا، لأنه زرع فينا الفخر والاعتزاز. لا شك في أنّ الغياب قاتل، وطويل، واللحظة الاولى من علمنا بالخبر كما هذه اللحظة، حرقة الغياب قاتلة ولا شيء يعوّض غيابه”.

“لماذا بابا غاب؟ لماذا لا نراه؟ كيف يرانا رغم انّ السماء بعيدة؟ متى يعود؟”، وغيرها من الاسئلة التي قد لا يتوافر لها إجابات، يطرحها يومياً أولاد الشهيد مغيط، وعلى حد تعبير نظام: “يكبرون والاسئلة تكبر معهم، لا سيما تلك الموجّهة لوالدتهم، أحياناً قد تحار في تأمين الاجوبة المناسبة”. ويضيف: “أمّا الاسئلة الاكثر إيلاماً لماذا استشهد بابا؟ ولأجل من استشهد؟ أُحرج أحياناً وأنا أحاول أن أفسّر لهم الواقع في وقت لا يزال يسقط شهداء، حتى أنّ من استشهدوا لم تؤخذ حقوقهم لجهة معرفة الحقيقة والجهة المسؤولة عن الإهمال الذي حصل والتلكؤ”. في الوقت نفسه يحزّ في نفس مغيط القول “راحوا ضيعان”، فيوضح: “أتألم لمجرد التفكير لوهلة أن تكون دماء الشهداء ذهبت “ضيعان”، لا شك في أنها أزهرت في مكان ما، ولا أنكر أنّ من واجبات الجندي الاستشهاد في سبيل وطنه، ولكن السؤال الاكبر: “هل يستأهِل الوطن كل هذه الدماء والاطفال الايتام والعائلات المقهورة والمفجوعة وفيه مثل هذه الطبقات الحاكمة؟”.

يصعب على من يزور عائلة المقدّم الشهيد داني حرب الاعتقاد لوهلة أنه ترك هذه الدنيا، عند رأس الشارع يستقبلك تمثال له ضخم فتشعر كأنه يحدق بك، وعند استقبال عائلته لك، تشعر كأنّ البيت برمّته ينبض بوجوده، فهناك صورة ضخمة عن يمين الباب وأخرى مزروعة في كل زاوية وعلى كل حائط، وخلف كل أيقونة دينية، وجَنب كل مزهرية أو شمعة مُضاءة. مختلف الشهادات، التنويهات، الترقيات، الأوسمة التي نالها داني معلّقة.
لا تنكر زوجته إيليانور أنّ المسؤولية على عاتقها تضاعفت منذ استشهاده، “مش هَيّنة” أن يؤدي المرء دور الاب والام في آن معاً، لذا أحاول أن أخلق لولدينا ريان ورواد أجواء من الفرح والمحبة تُبعدهم عن فراغ الاب، وألم الغياب، لذا نكثّف مشاريعنا في نهاية الاسبوع أو بعد أن أنتهي من دوام عملي. ولكن في الوقت نفسه أحاول أن أنمّي في داخلهما روح المسؤولية والجدية، وأنّ عليهما التعب للوصول إلى ما يبغيان، لذا قد أرفض لهما طلباً أحياناً أو أتمنّع عن إحضار غرض ما كانا قد طلباه”. وتتابع: “أعمل وأناضل أمامهما وأذكرهما دائماً برغبة قلب والدهما بأن يكونا من الشباب الذين يحبون وطنهم فخورين بأنفسهم. لذا، الواجبات المدرسية أساسية”.ه

من بين الامور التي تحتفظ بها إليانور، الدردشات عبر الواتس اب بينها وبين زوجها، وسرعان ما تخونها دموعها عرض خدّيها فتقول: “لا أزال محتفظة بكل الاحاديث التي دارت بيننا لا سيما في اللحظات الاخيرة من استشهاده، آخر ما أرسله لي “فويس” يحمل أصوات الرصاص، كأنه يطلب منّي عدم التعاطي معه ليركّز على المعركة. لذا، مَرّت ساعات بعدها من دون أن يحدثني إلى أن تبلّغتُ الفاجعة أنه استشهد. وعلمتُ لاحقاً، من رفاقه في السلاح انّ: “حرب كان عم بينِطّ من تَلّة لتَلّة”. أما وصيّته الخاصة، فتقول: “لم يُفكر يوماً بنفسه، هاجسه الاكبر ألّا نعاني من أي نقص في غيابه. لذا، غالباً ما كان يخشى الرحيل أو الاستشهاد من دون أن يترك لولديه ما يتيح لهما إكمال علمهما والعيش بكرامة، وأغلى ما تركه لنا هو الافتخار به وبوطن يكبر بدماء شهداء جيشه الأبطال”.

رغم صغر سنّه، ما زال ريان الابن البكر للشهيد حرب (12 سنة)، يتذكر بعض التفاصيل: “إندلعت المعركة بالتزامن مع عيد الجيش، غاب أبي مطوّلاً عن السمع إلى أن غاب كلياً ولم يعد بوسعنا رؤيته. لذا، تعني لي المعركة الكثير، خسرت فيها أبي في الجسد ولكنني ربحته في السماء، أمي دائماً تقول: أبي يرانا من فوق”. ويضيف: “رغم انه ليس بوسعي رؤية أبي كرفاقي الذين ينتظرون آبائهم ليعودوا من السفر، ولكن أشعر بأنه معي. منه تعلّمت الكثير عن المؤسسة العسكرية، ولطالما حلمت أن أصبح مثله”. أما رواد الابن الأصغر (9 سنوات) فسرعان ما تنضح عيناه افتخاراً، قائلاً: “عيد الجيش عو عيد أبي، وأنا فخور به لأنه استشهد بطلاً في سبيل الدفاع عن العالم “كِلّن” وعن لبنان».

اترك ردا